سمرمدير… اغنى رجلٌ في العالم

سمرمدير….اغنى رجل في العالم

منذ ما يقارب ال٦ سنوات تركنا القرية مرتحلين للمدينة للدراسة،

ودعنا الحوش الكبير

ودعنا الجبال الشاهقة

والوديان السائلة

ودعنا اصوات العصافير

ودعنا الارض الخضراء

ودعنا السماء الزرقاء

ودعنا الهواء والنقاء.

وفي مجموعة وداعياتنا ودعنا بيوت الاصدقاء

وودعنا مدرستنا القديمة وكل مكان كان لنا فيه ذكرى،

ومن هذه الاماكن اصغر بقالة في القرية،

بقالة “سمرمدير”،

سمرمدير هندي الجنسية يعمل هُنا منذ ما يقارب الاربعون عامًا، غير اسمه كبار السن هُنا الى “سمير” وحذفوا “مدير” الوظيفة التي كانت صك الرشوة له،

فكان يحب ان يقال له “مدير سمير” اكثر من سمرمدير!

كان صديقًا لوالدي وكان يُحبني انا واخي جدًا،

كان يُكرمنا بالاستقبال والهدايا حين ننجح

كان ينتظرنا اذا خرجنا من المدرسة ،

اذا تخلف احدنا يسال عنه الآخر،

وقفت عند بابه ونظرت لمكتبه المرتسم في وسط البقالة ومن خلفه مجموعة الالعاب المغرية جدًا لي،

وصورته مع بنتهُ وابنه وصورة زوجته التي قد طمس وجهها احترامًا لثقافة ودين المكان التي ترفض رؤية المرأة كاشفةً الوجه.

وشهادات كثيرة لا افهم لغتها.

نظرت لسمير وودعته وحكيت له ان ايامي هنا انقضت وجاء وقت الدراسة،

نظر لي واحتضنني، وطلب منّي الانتظار،

وغاب بُرهةً وعاد،

عاد وفي يده حلويات، ودفتر وقلم رصاص طلب مني ان استذكر عليهم،

امسك بكتفي وطلب مني ان اجتهد مثل (رانبير )

لا اعرف احدًا بهذا الاسم ولكن قلت ان شاء الله

ودعني عند باب البقالة وطلب ان اطمنه عن نتائجي،

لوحت له بيدي،

ورحلت.

بعد ٦ سنوات..

عُدت

تخرجت من كلية الصيدلة،

عُدت للقرية،

هل تعرف معنى ان تعود لمكان سكنت فيه عمرًا

وغبت عنه فترةً طويلة؟

في كل مكان في هذه القرية لي فيها ذكرى،

الوادي..

والسباحة بعد المطر

رائحة الحبق والنعناع،

المزرعة..

وقت الحصاد وتجميع الناضج من الخضروات،

الشارع..

واللعب مع الاصدقاء،

كل مكان هنا لي فيه ذكرى،

دخلت للمنزل ووضعت حقيبتي،

نويت المكوث هنا فترةً من الزمان استعيد فيها الذكريات،

استعيد فيها ذاتي التي سلبتها المدينة ،

فسكان المدن مساكين،

لا يعرفون حرية القرى،

حرية النظر دون ان يرتد نظرك بسبب بيت احدهم،

او بسبب برج،

او عمارة،

اشيع بنظري اذ امامي الارض كُلها متصلةً بالسماء،

هل تعرف هذا الشعور ايها المتمدن؟

ولانني اريد الذكريات ولا شيء غيرها،

مشيت للبقالة،

بقالة سمير،

اذا بالمكان اصبح اشبه بالمدينة ،

سمير الذي كنت ارى بقالته اكبر بقالة بالدنيا اصبحت اصغر بقالة بالقرية،

دخلت عليه صباحًا،

كان يردتي نظارته المعهودة،

وامامه كوب الشاهي -الذي كان كوب جبنة بالاصل- والطحينية المعتادة،

والجريدة التي على الصفحة الرئيسة صورة رجل غاضب كالعادة.

رفع عينه ونظر لي

انزل الجريدة،

واشار لي،

وقال “ابن سعيد؟”

هو هو

واقترب حولي واحتضنني،

اجلسني على كرسيه الخشبي،

وذهب لاخر البقالة لاحضار باقي الضيافة،

ونظرت للبقالة نظرة الذكريات،

لا شيء تغير هنا الا ان صورة ابنائه اختفت!

عاد وفي يده الحلوى التي كنت احبها!

لم تنسى يا سمير؟

سألني عن اخي،

وابي،

سال هل لا زال يشرب حليب السعودية كل ظهر؟

سال هل لا زال اخي يشرب الغازيات بنهم،

سمير يذكرنا يذكر كل تفاصيلنا،

سالني عن مدى صعوبة دراستي،

سألني عن كل ما يمكن ان يحقق فيه،

ضحك بصوت عالي وقال كم كان يحب ان يشاهدنا ،

وساد الصمت دقيقة،

وسألته السؤال الذي دار بعقلي:

سمير اين صورة ابنائك؟

نظر للأرض

ونزلت دمعته..

لحظتها تذكرت قول اخي:

انت انسان

اسمع وارحل

لا تعش دور المذيع وتتعمق بالحديث مع كل الخلق.

ليتني انصت لك يا اخي.

لكن سبق السيف العذل.

نظر لي وقال هل لك وقت لي؟

قلت طبعًا يا سمير!

قال سأحكي لك لماذا جئت السعودية اصلًا!

هذه القصة كما حكاها سمرمدير،

ولكن مع التعديل والنقل..

لنبدأ من ١٩٨٦،

كنت في احد احياء مومباي البسيطة،

بابنا بباب جارنا،

حياة بسيطة تعيسة،

الماء يدخل علينا كاننا نعيش في وادي،

لكن كنا سعداء!

الحقيقة انا كنت سعيد فقط،

لان (فريدا) كانت تاتي لنا بچباتي محفوف بجريدة،

الچباتي لاخوتي،

والجريدة لي،

دعني احكي لك بسرعة قصتي معها،

كانت جميلة جدًا، احلى من فتيات بوليوود،

تبتسم لكل شيء،

والكُل شيء يبتسم لها حتى لو كان بعد عزاء!

رائحتها كانت كانها ولدت في حديقة،

كريمةً جدًا!

لا يعييش بجانبها احد الا واكرمته واحبها،

عند باب بيتها قبيلة من القطط والفئران حتى!

يعيشون بسلام هل تستوعب هذا؟

لا خلاف في ذلك فلقد كانت ترعاهم على حد سواء،

الحب هو كل ما تنشر حتى بين الاعداء،

احلى فتاة بالعالم،

حتى قررت ان تقول لي:

تزوجني!

اعمل يا اخي في اي مكان في الدنيا،

(.مادان.) لديه عمل في السعودية اذهب واجني المال وتزوجني!

سانتظرك ولكن اعمل اكثر واجلب لي ولك المال لنخرج من هنا!

وافقت على عرضها،

ترجيتها الف مرة ان تصبر حتى اعود لها،

وكانت تهز رأسها،

ذهبت لـ(مادان) واعطاني التأشيرة ،

وسافرت للسعودية،

ذهبت لهذه القرية وعملنا عند سوداني يدعى “هاشم” كان طيبًا جدًا يقول انه تخرج مثلك من كلية الطب ولكن لم يجد عملًا الا هنا ولكن بعد سنوات اصبح طبيبًا، وكان معي هندي اخر اسمه (اجايا) كان يسرق كل شيء، للحد الذي يجعلني افكر ان اضع قفل على جيوبي، وحين اصافحه اعد عدد اصابعي بعد مصافحته،

عملنا حتى ١٩٨٩ وخرج هاشم واصبحت انا المدير هنا، اما (اجايا) بقي تحت امرتي فانا المدير النزيه هو سارق، وجمعت ما يقارب المليون روبية وعدت للهند للزواج من (فريدا).

بعد رحلة ١٤ ساعة وصلت الهند،

من حماسي شريت ملابس العرس من المطار،

واتجهت لبيتها لخطبتها والزواج في يوم واحد.

الوصول:

دخلت القرية وسط “هِرن” السيارات والصرخات،

نزلت من السيارة وانا بشنطتي واحيي الموجودين،

والجيمع ينظر لي لانني صرت مدير،

ركضت لامي وابي قلت اسمعوا لن اطيل الكلام ساذهب الان لخطبة (فريدا) .

سكتوا ونظروا لبعض،

تمنوا لي التوفيق، ولكن هي انتقلت لبيت اخر في دلهي،

غضبت!

وحزمت حقائبي واخذت العنوان الجديد ورحلت لدلهي،

طرقت الباب على العنوان،

خرج لي والدها!

نظرت له وقلت اين (فريدا)؟

قال سمرمدير…

لقد ماتت من عامين تقريبًا،

ولم نشأ ان نخبرك ،

اكمل حياتك،

اتمنى لك التوفيق.

كُسر قلبي،

لكن من يهتم لقلب شاب في مثل سِني؟

تافهة ساذج،

“عامل” كما يقال،

من حزني نمت على رصيف المطار بعد حجز تذكرة للعودة للسعودية ،

كرهت الهند

اريد ان اسخر نفسي للعمل فقط!

لا اريد ان ارى هذه المدينة والناس واللغة،

دعني اعود للسعودية،

عند ابو ظافر الذي يسرق اللبن ويظنني لا اراه،

عند ابو ضيف الله الذي يطلب تخفيض على سعر الخبز،

عند جدك الذي كان يشتري من عندي الرز ويعطيني اياه زكاة.

اريد هاؤلا الناس،

لا اريد الهند.

العودة:

عُدت

وكرست نفسي للعمل والبقالة،

انام حين أُهلك فقط لكي لا يكون لي وقت للذكريات،

انام لارتاح

واصحى لأعمل

لا وقت للذكريات!

عملت حتى ١٩٩٢ قبل سفري للهند جائني رجل هندي يدعى (كاجول) قال انه يخاف على اخته خوفًا شديدًا من الدُنيا بعد اصابته بمرض السرطان،

ويريدني ان تزوجها،

وافقت فورًا،

اريد نسيان (فريدا) بأي ثمن!

عدت للهند وتزوجت (شيلاء)،

ومكثت ٣ سنين وانجبنا (آشا) و (رانبير) واصبحت اعود للسعودية للعمل وجني المال لاصرف عليهم، اريدهم انجح من ابيهم العامل المسكين.

بداية الشهر اشتري كيس طحينة ب١٠ ريال فطورًا وغداء لكل الشهر والعشاء تميس،

وباقي المال لحبيبي الحقيقين،

وفي ٢٠١٠ تقرر دخولهما الجامعة،

وفرت لهم مبلغًا ضحمًا ليدخلوا الهندسة في كلية دلهي للهندسة،

هي لابناء الوزراء والتجار فقط!

ودخلتهم هناك اريد ان افخر بهم،

تخرجوا من اعرق جامعة هندية!

أبناء سمرمدير لا يقلون عن أبناء الاغنياء كومار وبابو وجنيف وغيرهم.

كنت اوفر لهم الاقلام الغالية جدًا،

وشريت لهم سيارة فيها مسجل ومكيف!

ودرسوا وكنت اعلق شهاداتهم السنوية هنا خلفي،

هاؤلا مصدر غناي وعملي،

كنت كل ما جلست على الكرسي وعاد رأسي للوراء كسلًا رأيت شهاداتهم وصورتهم واسيتقظ عملًا لأجلهم.

التخرج:

في ٢٠١٦ عدت للهند بعد دعوتي منهم لحضور حفل تخرجهم، اشتريت لبسًا غاليًا ب٥٠ الف روبية للحضور مع ابني المهندسين،

دخلنا الكلية وعدد الحضور قليل فالخريجون قليل،

فاولاد الاغنياء احيانًا اغبياء، يصعب عليهم الاجتهاد في الدراسة ولكن يسهل عليهم الاجتهاد في الخطأ ،

المهم لانهم عنصريون اجلسونا في الاخير،

لكن لا يهم،

الكل هنا يحمل في رصيده مليارات ولكن بجانبه ولد واحد نجح بعد رشاوي وسنوات من الرسوب،

انا في رصيدي روبيات ولكن معي اثنان،

بنت وولد اذكى من كل من بالقاعة،

بدأ التكريم،

وقبل اسم ولدي،

نادوا على (ڤيان) ابن التاجر (زاران) وقف ابوه معه بمنظر كنت اتخيل انني انا هُناك واضحك.

قال التاجر:

ان الفضل ليس لي!

بل لامه الدكتورة (فريدا)

ماذا؟

تشابه اسماء،

ارجوك قل هذا،

انها هي

بشامتها التي على وجهها وتسريحه شعرها اعرفها من بين ١٠٠٠٠ مرأة!

وقفت على المسرح،

ووقفت بالمدرج!

هي!

(فريدا)

نعم

انها هي!

وقفوا من بالمسرح معي وصفقوا لها،

الم اقل لك انهم اغبياء؟

وقفت انا من الصدمة وهاؤلا لانهم يقلدون.

امسكت ابنتي وولدي بكتفي وقالوا لي:

الدكتورة (فريدا) كانت تحبنا حبًا شديدًا،

كانت تهتم فينا اكثر من غيرنا،

وقالت بنتي:

كانت تقول لي قلي لأبوك:

“بعض الأحيان نضطر لإدعاء الموت لنستطيع ادعاء الحياة،

فمن يذوق المُر دومًا لو ذاق فتات السكر لأغرم به،

اما انا فقد رأيت القصب كله، فلن اتركه للفتات،

ولكن لن اصب الماء على الفتات واذيبه،

بل ساتركه لذائق مُر غيري لا يعرف غيره فيحبه.”

لم تعرف ابنتي معنى الحديث،

ولكن عرفت معناه،

انا القصب يا (فريدا)

وانتوا يا من لحقتوا خلف اهواءكم الفتات.

نادوا على ولدي،

ووقفت على المسرح،

وصرخت بصوتي كله قائلًا:

انا اغنى رجل بالعالم

تزوجت (شيلاء) اعظم امرأة بالدنيا،

كانت هي النبع الذي لا يتوقف عن سُقيا الخير،

اسقتهم الحُب والجِد والصرامة،

حتى اثمر جهدي وجهدها.

فلقد انجب عرقي وجهدي ولدان عبقريان

فلقد سهرت الليل كلهم وعملت النهار جُله لاجني التجارة الحقيقة:

هاذان.

بعد التخرج:

الان يعملان في احد الدول الخليجية براتب خيالي،

طلبتهم ان لا يعطيانني روبية منه،

كله لهم.

وسبب نزعي صورتهم من مكتبي هذا،

لان لا يوجد انسان يضع رصيده امام الناس،

كل شيء حسن في حياتك حاول اخفاءه عن الناس،

مالك

وعملك الصالح

وكل خير قمت به،

لا تجعل الناس ترى الا الصلاح والوَرَع منك،

وفي باطنك خيرٌ كثير.

المهم يا بُني،

هاؤلا سبب غِنَاي الحقيقي،

تعبت على من يستحق التعب.

الابناء الصالحين هم الرصيد الذي لا ينقص ،

ما الفائدة من ملايين البنوك وفقر البيوت؟

ما الفائدة ان نستثمر اموال الناس ولا نستثمر في ما اعطانا الله؟

كل من بالمدينة هذه لا يملكون ولدان مهندسان،

انا فقط من املك،

املك اصغر بقالة بالمدينة

واملك اكبر تجارة بالعالم.

رأي واحد حول “سمرمدير… اغنى رجلٌ في العالم

أضف تعليق